الانتحار: بين الدلع والهلع !
موفق العيثان*
على الرغم من مرور خمس سنوات على زواجه منها. إلا أنها مازالت ترهبه. كلماتها من نار وحركاتها من حديد.. وقلبه من ريش. يمكن لكم أن تصفوه بذلك بسهولة، لكنه يحبها ويحب أهله والأسرة، ولا يريد الفضيحة.
جاسم ليس فقط متعلقا بها جدا، إنه يخاف عليها. كان يعرف من البداية أنها عصبية، وأنها تعاني من بعض المشاكل النفسية البسيطة، لكنه توكل على الله تعالى، وتزوج من ابنة عمه كما أراد أهله كذلك. سهير ذات ذكاء عال، وتصغره بخمس سنين، وهو ليس فارقا كبيرا أبدا، وخصوصا أنه ما زال في بداية الثلاثين.
لم يرزقه الله بالذكاء العالي. لكن رزقه بالصبر الكبير والقلب الأكبر. حتى لو قلتم إنه قلب من ريش، لكنه كبير. عندما تطرق لمشكلته مع سهير كان يلف ويدور لأكثر من نصف ساعة حول مشكلتها النفسية والحزن والكآبة اللتين تعاني منهما كما وصفها لي. لكن الحقيقة أنه كان أكثر كآبة منها، وأكثر إرهاقا منها. هو الذي يعاني وهي السبب.
بعد الأيام الأولى من الزواج بدأت سهير في طلباتها وتكرار رغبتها في الأشياء.. كطلب الأطفال بإلحاح وتمرد. لا تطلب من أحد بكلمة لو سمحت أو رجاء..، قاموسها لا يحتوي على هذه الكلمات.!، كلما طلبت أجاب طلبها بابتسامة أو عابسا. المهم الطلب مستجاب.
بمرور الأشهر والسنين بدأت الصعوبات تكبر.. كالعادة. بدأت سهير تطلب ويعلو صراخها..، ويرفض لفترة صغيرة فقط!، وبعدها يرضخ لتهديدها.
يتذكر جاسم بدقة أول مرة هددته بالانتحار.. نعم بالانتحار. كانت السفرة الكبيرة بالنسبة لها، ولابد في رأيها أن تسافر مع أهلها.. لم يخبر الأهل لحد الآن بالمشكلة..، وحده يعاني..، وكان ارتباطه بأهله وأهلها قويا، ويحرص على العلاقة الودية الغالية بين العائلتين، ولا يريد إفسادها بالمشاكل أو الطلاق..!
شعر جاسم بأن الأرض تدور به عندما سمعها تهدد بالانتحار بجدية، وصعق لهول وقوع الكلمة على أذنيه. لم يعرف كيف يتصرف سوى أنه اعتذر، ووافق من غير أن يدري هو بنفسه بذلك..! ، بعد يوم صحا من هول استجابته..لكن فات الفوت، ولا يغير كلمته..، وسهير فرحة.
استمر الحال هكذا، وكلما حاول أن يمنع نفسه من الاستجابة لتهديدها لم يستطع. أولا لأن موضوع الانتحار كموضوع لا يمكن التحدث عنه في المجتمع، وثانيا كان يخاف بأن يقع اللوم عليه هو، وأنها ستنفذ التهديد، وتخبر الآخرين بأنه السبب، وتتقول عليه الأقاويل ، فقد كان التهديد المزدوج عادة- الانتحار وترك رسالة للأهل لتفضحه.
فقط بعد الحديث المطول ودراسة حال الزوجة والزوج تذكر جاسم لأول مرة بأن سهير كانت تهدد أهلها كذلك بأسلوب متقارب جدا، وأنهم لم يستجيبوا لها بنفس الطريقة. كان يعاني كثيرا من النظرة الدونية التي يحملها عن نفسه بسبب استجابته لطلباتها، ولخوفه عليها. لكن الحقيقة الأكثر عمقا اتضحت أنه كان خائفا أكثر من عواقب الطلاق. كانت المشكلة الكبرى في رأيه ماذا لو حدث الطلاق ، بسبب أنه لا يلبي طلباتها، وأنها ستطلب الطلاق فعلا..، هل سيتزوج بعدها. هل سيجد من تقبل به وبأولاده ؟ هل سيغفر له الأهل ذلك السلوك..؟
الانتحار كظاهرة نفسية غير سوية يحدث في كل الأزمان والأديان والبقاع..، والحديث عنه ربما يساعد على تقليل حدوثه بإذنه تعالى. مشكلة سهير أنها دائما تهدد والذي ينوي الانتحار بجدية- لا سمح الله- لا يهدد ويفكر ببطء وسكون. إن تعلق جاسم بها ومخاوفه ـ كما يدركها هو ـ غير الواقعية جعلت من سهير مرهبة له بتهديدها إياه. الحقيقة أنها على مدى السنين تهدد ولا تنفذ..، وربما بإذنه تعالى لن تنفذ.
كان جانبا من العلاج النفسي مع جاسم هو تناول المخاوف التي يرى أنها حقيقية، وفحصها للتخفيف من حدتها في تفكيره. ثم التحدث بوجود سهير بعد أن أصبحت هي مستعدة نفسيا ، والتخطيط للتوقف عن الاستجابة للمطالب الكبيرة والصغيرة التي تعطى مقترنة بالتهديدات المتكررة.
في العلاج النفسي السلوكي والمعرفي، لا أتطرق إلى النوايا، فعلم النوايا عند ربي وحده سبحانه وتعالى. يخطىء الكثير من المهنيين أو المدعين عندما يتحدثون عن نوايا المراجعين ـ سواء كانت هذه النوايا متعلقة بالإيمان أو السلوكيات والجوانب النفسيةـ بل أتطرق فقط للسلوك والأفكار، واستنبط منها الجوانب النفسية التي تساعد المراجع، فلا يحق لمعالج أو طبيب أن يقول لمراجعه أو المراجع مثلا "إن إيمانك ضعيف، لذلك أنت عندك هذه المشكلة" - فلا يعلم ذلك إلا الله سبحانه ( أشققت عن قلبه). يقولها الطبيب أو المعالج إذا افتقد العلم والمعرفة والمهنية ، وكثيرا ما أسمع هذا الكلام من المراجعين عن خبراتهم السابقة.
المهم أن يراعى الجانب النفسي السلوكي وطريقة التفكير وآلية تعلم السلوك، وتعزيز هذا السلوك أو ذاك، لكي نقدم خدمة مهنية علمية موضوعية للمراجع.
وفي هذا السياق لابد من التأكيد على أن الممارس المهني في علم النفس العيادي مثلا هو الذي يقيس الحالة النفسية المناسبة، لكي يرى أنها ليست خطرة من ناحية تنفيذ التهديد بالانتحار، فكل حالة نفسية يجب دراستها بمفردها، وعدم التهور أو الإهمال مع كل حالة نفسية مفردة، وهناك فرق بين الانتحار ومحاولة الانتحار..ربما نتكلم عن ذلك في فرصة أخرى مستقبلا بإذنه.
أسئلة حائرة:
ابنتي تأكل شعرها !
* ابنتي عمرها ثلاث سنوات،وهي البنت الوحيدة، كان الحمل والولادة طبيعية، وهي لا تشتكي من أمراض. لكن مشكلتها أنها تأكل شعرها وأي شعر تجده، في البيت أو عند الأقارب. هذه المشكلة بدأت عندها من سنة ونصف تقريبا، ولا نعرف السبب.
انتصار - جدة
الجواب:
هناك العديد من الاضطرابات السلوكية التي يمكن أن نراها عند الأطفال التي تتغير مع الزمن من دون سبب أو تدخل صحي أو نفسي. لكن لا يمكن السكوت والانتظار على كل اضطراب سلوكي قد يمر به الطفل، بل يجب الاستشارة المهنية مبكرا لتفادي أن تكبر المشكلة مع الزمن.
بعض الأطفال عندهم اضطرابات في الأكل، وتكون متعددة ومتغيرة مع الزمن، فبعض الأطفال يأكلون التراب أو الطباشير، والبعض يأكلون نوعا واحدا من الأكل (الرز أو الجزر....الخ) ولا يقبلون أي أكل آخر، وهناك حالات أقل حدة تأكل ما لا يؤكل أصلا كالشعر، فبنتك عندها هذه المشكلة.
لا نعرف سببا أصلا لهذه العادات غير الطبيعية في الأكل. المهم الآن أن تراجعي اختصاصية أطفال لفحصها تماما، والتأكد من عدم وجود أي نقص في نموها أو تكوينها الجسدي. ثانيا بعد التأكد من سلامتها، عليك أن تراعي أين ومتى تأكل الشعر، وحاولي أن تراقبي لمدة أسبوع لتلاحظي إذا كان هناك نمط متبع عندها ( مثلا بعد الأكل أو قبله) هذه الملاحظات ستسهل عليك معرفة نمط أو أوقات وطبيعة المشكلة. ربما بذلك ستكتشفين أنك كلما قربت وقت الأكل قل أكلها للشعر.. وهكذا.
من جهة أخرى أو لو أنك تلاحظين بدقة الجوانب المحببة لديها للقيام بتشجيعها باستمرار عندما تمتنع ـ حتى ولو قليلا جدا أو بالمساعدة منك ـ عن أكل الشعر نقدم لها المعزز هدية أو برنامج تلفزيوني تشاهده....الخ. هذا الأسلوب التعزيزي سيساعدها تدريجيا لترك أو التخفيف من هذه العادة السلوكية غير الصحية، والتي يجب عدم تركها، لأن تراكم الشعر في بطنها قد يسبب لها مشكلة في المستقبل القريب أو المتوسط.
* استشاري علم النفس العيادي والعصبي